جادل الحكماء بأن القوى البرية والبحرية تولد مجتمعات مختلفة. وعليه يتعين علينا مراقبة الثروات النسبية للقوى البرية مقابل القوى البحرية.
من الملاحظ تقدم القوى البرية في كافة أنحاء العالم. تحاول روسيا إعادة تجميع إمبراطوريتها القديمة. وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) يعني أن الاتحاد الأوروبي أصبح أكثر من أي وقت مضى قوة برية، تهيمن عليه ألمانيا وفرنسا ويتطلع شرقا نحو أوروبا الوسطى المحاطة باليابسة. أما الولايات المتحدة، التي تقلبت لفترة طويلة بين كونها قوة برية وقوة بحرية، فإنها تتجه نحو الداخل مرة أخرى.
هذه أخبار سيئة لمستقبل كل من التجارة الحرة والحرية. فقد خلقت القوى البحرية، ولا سيما بريطانيا العظمى، البنية التحتية المؤسسية والفكرية لشكل ليبرالي مميز للرأسمالية: حكومة محدودة في الداخل وتجارة حرة في الخارج مدعومة بأسواق الأوراق المالية المبتكرة والقوات البحرية القوية. وعلى النقيض من ذلك، اتبعت القوى البرية طريقا أكثر استبدادا إلى الحداثة: الحكومات المتسلطة، والجيوش النظامية التي تتطلب أنظمة ضريبية فعالة، واقتصاديات ديريجستية (حيث تتحكم الحكومة في اقتصاد البلاد)، وقبل كل شيء، تعطش لمزيد من الأراضي.
رأى مؤسسو الليبرالية الاقتصادية الحديثة روابط عديدة بين البحار المفتوحة والمجتمعات المفتوحة. جادل «آدم سميث» بأن «النقل المائي» يفتح سوقاً أكثر اتساعاً من «النقل البري». وأشار «ديفيد هيوم» إلى أن التجار الذين «يمتلكون سر الاستيراد والتصدير، ويقومون بإغراء المغامرين الآخرين ليصبحوا منافسين لهم في التجارة. في القرن 16، أصبحت إنجلترا ودولة أخرى صغيرة بحرية، هي الجمهورية الهولندية، أول قوى رأسمالية في العالم. كلاهما أنشأ قوات بحرية قوية، وفئات تجارية طموحة، وإمبراطوريات مترامية الأطراف، وتحالفات بعيدة المدى، وفلسفات سياسية حيوية ذات أهمية عالمية، مثل فلسفة جون لوك.
كانت العلاقة بين القوة البحرية والقوة البرية، وبين كليهما والحرية، أكثر دقة مما افترضه هؤلاء المفكرون العظماء. كان لدى إسبانيا قوة بحرية كافية لتحدي البريطانيين للقتال، وأسست إمبراطورية عملاقة في الأميركتين. وكانت اليابان مملكة منعزلة حتى أواخر القرن 19 عندما بدأت في التوسع الإمبراطوري في آسيا والمحيط الهادئ.
كان التزام العالم الأطلسي بالحرية دقيقا أيضا. أنشأت هولندا وبريطانيا إمبراطوريات شاسعة في الخارج. وتاجرت الشركات التجارية البريطانية، وخاصة شركة رويال أفريكا، في العبيد.
كانت إسبانيا دولة شديدة المركزية تعاملت مع أراضيها في أميركا الجنوبية كمصدر للذهب لتمويل بطولاتها العسكرية في البر الأوروبي وليس كشريك تجاري. كانت العبودية والاستعمار منتشرين في كل مكان في تاريخ البشرية. وفي عام 1807، كانت بريطانيا أول دولة تلغي تجارة الرقيق داخل أراضيها باستخدام قواتها البحرية. وعلى الرغم من جميع انتهاكاتها، طورت القوى البحرية مبادئ الحكومة المحدودة وحقوق الملكية الآمنة، بينما ظلت القوى البرية البارزة غير ذلك.
أما الولايات المتحدة، فلم تكن أبدا ملتزمة بالبحر مثل بريطانيا. فقد بدأت كقوة بحرية مع تركيز سكانها في الساحل الشمالي الشرقي ونخبتهم السياسية غارقة في كتابات سميث ولوك. وفي القرن 19، تحولت إلى الداخل، حيث قامت باستعمار المناطق الداخلية الشاسعة، وحماية صناعاتها الوليدة وتجنب التشابكات الأجنبية. لكن في أواخر القرن 19، تحولت إلى الخارج مرة أخرى عندما بنت أسطولها البحري الخاص، ووسعت تجارتها حول العالم، وجددت روابطها مع بريطانيا.
منعت الولايات المتحدة وبريطانيا معا أوروبا مرتين من أن تصبح مقاطعة ألمانية. خلال الحرب العالمية الثانية، ارتبط ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت جزئيا بتجربتهما البحرية المشتركة - كان الرئيس الأميركي مساعدا لوزير الخارجية لشؤون البحرية في 1897-98 وكان رئيس الوزراء البريطاني هو اللورد الأول للأميرالية في 1911-15. وفي 14 أغسطس 1941، تم الاحتفال بميثاق الأطلسي الذي قدم إعلانا مشتركا لأهداف الحرب البريطانية والأميركية. وبعد ذلك، تعاونت بريطانيا وأميركا في إعادة تأسيس العالم على أساس المبادئ الليبرالية للتجارة الحرة والمؤسسات العالمية المقيدة بالقواعد.
لكن كان للنصر ثمنه. أثناء هزيمة دول المحور، خسرت بريطانيا حوالي 280 سفينة حربية كبرى و1000 سفينة أصغر مثل كاسحات الألغام. لقد كان عرضا مذهلا لاستمرار براعتها البحرية وسط تراجع إمبراطوريتها، ولكنه كان أيضا بمثابة خسارة لا يمكن للقوة المنهكة أن تتعافى منها أبدا. واليوم، نادراً ما تمتلك المملكة المتحدة أسطول صيد أو صناعة بناء سفن أو بحرية تجارية أو بحارة. ومن الصعب أن نرى بريطانيا ترسل أسطولا إلى البحار الجنوبية لإحباط الغزو الأرجنتيني لجزر فوكلاند كما حدث في عام 1982. وخفر السواحل عالق في مهمة لا نهاية لها تتمثل في إنقاذ اللاجئين من البحر.
لا تزال الولايات المتحدة تمتلك حتى الآن أكبر قوة بحرية في العالم. لكنها مع ذلك تعود إلى عاداتها القديمة القائمة على الأرض. رسخ جو بايدن سياسات دونالد ترامب «أميركا أولاً» من خلال تعزيز الحواجز أمام تصدير الصناعات الاستراتيجية إلى الصين، مع التركيز على تعزيز التصنيع المحلي والاستراتيجيات الصناعية الوطنية بدلاً من التجارة العالمية. وبعد أن لعبت دورا رائدا في إنشاء منظمة التجارة العالمية، تقوم أميركا الآن بتهميشها أو حتى تقويضها. وتتجه الثقافة الأميركية إلى الداخل بشكل متزايد، وتركز على معالجة الانحلال المحلي، أو محاربة حروب الثقافة السامة. (تحاكي أوروبا الآن الولايات المتحدة في دعم وحماية المصنعين المحليين وتحويل انتباهها بعيدا عن التجارة العالمية).

كانت هناك عواقب وخيمة في الماضي عندما حلت القوى البرية محل القوى البحرية. على سبيل المثال، تراجعت أثينا، مهد الديمقراطية، بعد أن دمرت إسبرطة أسطولها البحري في إيجوسبوتامي عام 405 قبل الميلاد.
أشار توماس بيلهام هولز، أحد أعظم السياسيين في القرن 18، إلى أن بريطانيا ليس لديها خيار سوى «التفكير في العالم بأسره» لأن «كل جزء من العالم يؤثر علينا». الآن، تستطيع بريطانيا بالكاد أن تنظر عبر القناة. إنها تنتقل من استراتيجية جيوسياسية إلى أخرى - أولاً الانضمام إلى أوروبا، ثم تركها، والآن تبحث بحماسة عن مكان في عالم إقليمي. لقد أدى خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي إلى تسليم السلطة إلى تحالف فرنسي ألماني - وهو أمر حاولت قرون من السياسة الخارجية البريطانية تجنبه - وقلل من حجم وتعقيد تجمع التجارة الحرة في بروكسل.
يأمل العديد من مؤيدي بريكست في استخدام المغادرة لبناء محيط إنجليزي ذي قوى متشابهة ثقافياً مرتبطة بالتقاليد البحرية المماثلة - الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا - للعمل كقوة موازنة لمستقبل القوة البرية. ولكن هذا لم يحدث. وبالكاد، فإن اتفاقية أوكوس، التي تساعد بموجبها بريطانيا والولايات المتحدة في تزويد أستراليا بغواصات نووية، تعوض عن الفشل في إبرام صفقة تجارية أنجلو أميركية.
من الواضح أن تراجع القوة البحرية مأساة لبريطانيا. وعلى مدى العقود المقبلة، من المرجح أن يثبت أنه مأساوي لبقية العالم.

أدريان وولدريدج
كاتب أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»